الثلاثاء، 5 أبريل 2016

مذكرات طالبة طب (2) | عيادة الأمراض المُعدية

إنه الرابع من نيسان، أول يوم دوام بعد إجازة عيد الفصح، جلستُ في تمام السابعة والنصف صباحًا ورحتُ أجهز بسرعة كي لا أتأخر أكثر، كان يجب أن أجلس في السابعة لكنّ الأرق والحنين الذين اجتاحاني ليلة الأمس حالا بيني وبين ذلك، لا يهم.. وصلنا لمستشفى الأمراض المُعدية على طريق فولسكا (ul. Wolska) في الساعة الثامنة والنصف وعدة دقائق، كان يجب أن نكون هناك في الثامنة والربع.. هذا أيضًا لا يهم، معظم الأطباء هنا يعاملوننا معاملة الراشدين، أي: إن تأخرنا فنحنُ الذين سنخسر ساعات من كسب العِلم وهم لن يخسروا شيئًا، التوقيت مسألتنا نحن ومهمتنا لا مهمتهم.
حين وصلنا كانت المعلمة قد انتهت من سرد التاريخ المرضي لطفل لم يتجاوز السنتين مصاب بفيروس العوز المناعي البشري (HIV+) وقد اكتسبه من أمه المصابة بالفيروس ساعة الولادة حيث أن الولادة كانت طبيعية ولم تكن قيصرية، ولم تُتَّخَذ الإجراءات اللازمة لتقليل فرصة إصابة الطفل بالمرض* وها هو قد اكتسب الفيروس وبدأوا بإعطائه العلاجات اللازمة للحد من تكاثر الفيروس وبالتالي تفاقم المرض، الطبيبة كانت تشتكي من تقصير الأم تجاه ابنها فهي لم تعطِه الحليب الكافي لدرجة أنه أُصيب بسوء تغذية وفقر دم (أنيميا)، وتضيف: حتى حين أعطيناها الحديد كمُكمّل غذائي لابنها ليتشافى من الأنيميا لم تعطه كل الجرعات، توقفت بلا سبب واضح. تتنقل الدكتورة بين نظراتنا الممتلِئة بالشفقة على الطفل واللوم لأمه ثم تستدرك: أعتقد أنها مصابة بإكتئاب ما بعد الولادة لذلك هي لا تهتم بإبنها، إنها حتى لم تأخذه لمعظم مواعيد ما بعد الولادة ولم يأخذ كل التطعيمات اللازمة لعمره، لذلك أعتقد أنها مُكتئبة.. ربما هي مُكتئبة. سألتها: ماذا عن أبيه؟ ردت: لا أعرف لم أسألها، لا يهمني أن أعرف مدى علاقتها بوالد الطفل لا يجب عليّ أن أكون أخصائية نفسية واجتماعية -قالتها بأسلوب لطيف، تبدو الجملة حادّة وأنا أكتبها ^^'ـ 
دارت حوارات هنا وهناك عن المرض وقصص المرضى والأمهات المصابات اللاتي ينقلن المرض لأبنائهن، بعدها، قالت لنا الطبيبة: عندما يأتي الأمر لهذا المرض ينفر الجميع من المريض ويحكمون عليه بأنه إنسان سيء أو لا مسؤول أو.... العديد من الصفات السيئة والأحكام الخاطئة، لكننا لسنا هنا كي نحكم على الآخرين، لا يهمني كيف انتقل المرض لفلان أو علان، لا يهمني إن كان أخطأ أم لم يُخطِئ، الذي يهمني أنه مريضي وأنا هنا كي أفعل ما بوسعي لأخفف آلامه ومعاناته. ثم إنه لا أحد يعلم ما مرّ به هذا المريض، ولا أعلم ما قد يمرّ عليّ وما سأتعرّض له في أيام حياتي القادمة -فهمت من كلامها، أن الذي يتكلم اليوم على الآخرين ربما يحصل له شيء غير محمود غدًا وقتها لن يتمنى أن يحكم عليه الآخرون بأنه إنسان سيء ويريد من الكل أن يعذره ويفهمه فلِمَ يقسو على الآخرين الآن؟-
- حسنًا، الآن سأذهب لمريضتي ذات الستة عشر عامًا، لديكم إستراحة 15 دقيقة، لا أعتقد بأنه من الجيد أن تقابلوا هذه المريضة اليوم فقد وجدناها بالأمس فاقدة للوعي في دورة المياه بعد محاولتها الإنتحار، ولا أظنها بمزاج جيد لتقابل أحدًا.. سأخبركم عنها لاحقًا
بعد الاستراحة تحدثت معنا عن هذه البنت: عمرها 16 عامًا، (HIV+)، والداها مصابان بالفيروس أيضًا، والدها توفي قبل عدة أشهر، وهي لم ترَ أمها منذ 7 سنوات تركتهم فجأة ولم تخبرهم أين ستذهب، أختها الوحيدة، عمرها 13 سنة مدمنة مخدرات وتعيش في دار إعادة التأهيل كي تُشفى من إدمانها.. أنا أتفهّم وضعها، أتفهّم محاولاتها لإيذاء نفسها، ظروفها صعبة وحساسة جدًا، وكما قلت لكم لستُ طبيبة نفسية ولا مُصلحة إجتماعية لذلك تحدثت مع طبيبة نفسية كي تأتي لرؤيتها.

انتهى وقت الحصّة السريرية (ما أدري وش يسمون الـ clininal class بالعربي xD ) والآن استراحة نصف ساعة بعدها تبدأ المحاضرات.

* الإجراءات المُتّبعة في أوروبا للحد من انتقال الفيروس من الأم لإبنها:
1. فحص مخبري للأجسام المضادة لـHIV في بداية الحمل، وفحص آخر قبل الولادة بفترة.. بشهر أو شهرين
2. في حال كانت النتيجة إيجابية، إعطاء الأم الأدوية المضادة للفيروس (Antiretroviral therapy)
3. التخطيط لولادة قيصرية لأن نسبة انتقال الفيروس عبر الولادة الطبيعية (vaginal birth) أعلى بكثير من نسبة انتقاله بالولادة القيصرية
4. منع الرضاعة الطبيعية واستبدالها بالحليب الصناعي

رُكنِي الدافِئ

هذه التدوينة نتيجة إلهام من منشور الصديقة فاطمة الزهراء 💖 حين سألَت عن شعورنا تجاه غُرفنا وهل نعتبرها مساحة آمنة نحبها ونرتاح فيها أم ننفر...