الأحد، 30 أغسطس 2020

في رِثاء خالتي

 


بين الساعة والأخرى وأحيانًا من يومِ لآخر.. أشردُ بعيدًا عن مكاني وزماني وأسألُ نفسي: هو رحَلَت حقًا؟ هل رحلتِ يا خالتي الحبيبة.. بلا عودة؟ أسترجع أيامنا الأخيرة، أحاديثنا المطولة عبر الهاتف، حديثنا عن هذه الأيام الغريبة.. أيام الكورونا، الجلوس الإجباري في المنزل والخروج لطلب الرزق وشراء الأساسيات فقط لا غير، "أفلام" أحفادكِ، ضحكتكِ، سؤالكِ الدائم عن كل أفراد أُسرتي كلما تحادثنا: بعدها زينب تحب التفاح؟ حمّود ولدها زيها؟ ثم الحنين الذي لا تشائين إلّا أن تُعبّرين عنه فجأة هكذا.. وسط أحاديثنا: اشتقنا لكم.. متى بتجين؟ خاطري أشوفش، تذكيركِ لي بأن الطب كان حلمي منذ الطفولة، حلمي الذي.. أنسى أحيانًا أنني حققته، أنه إحدى الدلالات على أن الأماني تغدو حقيقة والدعاء يكون مستجابًا، دعائكِ الدائم لي "أنا كله أطلب لكم، الله يوفقكم ويردكم لنا سالمين.. اشتقنا لكم".

لماذا يرن صوتكِ في أذني الآن؟ / أسمعُ ضحكتكِ.. / أرى وجهكِ المُبتسم قُبالتي...

لماذا يبدو غيابكِ ككِذبة؟ هو هكذا فقد الأحباب، من الصعب على العقل إدراكه، هل ماتوا حقًا؟ -نقول-، وما الموت؟ -نتساءل-، يا ترى كيف هو شكل العالم الذي يعيشون فيه الآن؟

كنت أُحدّثُ نفسي قبل غيابكِ بساعات، أقول إنني أُحب الدقائق والساعات التي أقضيها في محادثتكِ، وبأنني غير مستعدة لأن تغدو مجرد ذكرى، هه.. يضحك الموت، يضحك القدر من ثقتي أنا.. الكائن البشري المحدود وتصديقي بأن عدم استعدادي لحدوث شيءٍ ما.. يجعل حدوثه مُستَبعَدًا، وما الدنيا؟ ما الحياة غير المُباغتات والمفاجآت والأحداث غير المُستَعَد لها؟

في اليوم الثالث لرحيلكِ، وقد كنتُ أعيش لحظة من لحظات استطعام مُرورة غيابك، تذكرتُ أنني صوّرتكِ بكاميرتي الفوريّة في لقائنا قبل الأخير، فأسرعتُ لغرفتي كي أبحث عن الصورة.. الكنز، ياللفرحة عندي صورتين مطبوعتين لي مع خالتي، وكالجدّات حين ينظرن صور أحفادهنّ، ضممتُ الصورتين لصدري وقبّلتُ وجهكِ الذي بات ذِكرى.. مُجرّد ذِكرى.

ياه، ياللدنيا، أنا وأنتِ وهم، كلنا.. مجرد وجوه تجيء وتذهب، تغيب فتستمرُّ الحياة، يقلبُ كتاب الحياة صفحتنا لا مُبالِيًا، تُشرق الشمس من جديد، يذهب الناس إلى أعمالهم، إلى السوق، إلى النادي الرياضي، وتمضي الحياة.. "عااادي".

لقد رحلتِ إذن يا خالتي، لم يعد دواء الشوق الاتّصال، مُذ ذهبتِ أُُصِبنا بشوقٍ لا علاج له، هي حسرة الأحياء على الموتى باقية وتتجدد كلما ضمّت الأرض جسدًا لِمَن يُحِبُّون، إلى رحمة الله يا خالتي الحبيبة، ما يُخفّفُ عنّي ألم فراقكِ الأبدي هذا هو إيماني بالعالم الآخر وأملي بلقاءٍ لا فراق بعده، إلى رحمة الله.

/

الفاتحة لفقيداتنا السعيدات، فقدناهنّ الواحدة تلو الأخرى، فقدهنّ كالحلم.. بل كالكابوس، حبيبات، عزيزات، لا نذكرهنّ إلا بالخير، أقرأ نُكَت ابتسام فأضحك وأقول يا بسمة كنتِ بسمة في حياتكِ وبعد مماتك، أسمع صوت خالتي زهراء في مقطعٍ أرسلته لي بداية السنة فأستشعر الحُب وعظم الشوق، أتذكر جدة أم عبد الله في آخر زيارة لي لدار أحبّتي، تحتضنّي وتُقبّلني المرة تلو المرّة، وهي التي عوّضتني عن فقدِ جداتي بحُبها وحنانها وسؤالها، إن أحبابنا هم صورة من صور رحمة الله في الأرض، الرحمة لكُنّ يا غاليات، فلتكُن الجنة داركنّ ومُستقرّكُنّ.

رُكنِي الدافِئ

هذه التدوينة نتيجة إلهام من منشور الصديقة فاطمة الزهراء 💖 حين سألَت عن شعورنا تجاه غُرفنا وهل نعتبرها مساحة آمنة نحبها ونرتاح فيها أم ننفر...