الثلاثاء، 8 ديسمبر 2020

٢٠٢٠ سنة عائمة بين المَوت والحياة

 ها قد بدأ آخر شهر في هذه السنة الكبيسة، الغريبة، المليئة بالأحداث منذ بدايتها سواء على الصعيد العالمي أو الشخصي.

كانت أخبار المرض المُعدِي المُنتَشِر في الصين قد شغلت العالم، ولكن ليس بِمعنى الانشغال التام بها، لا، بل كُنّا نضحك ونستهزأ، فتتساءل إحدانا: هل أُلغي طلبية الملابس من موقع شي إن؟ ويتساءل آخر: هل أستمر بالشراء من موقع علي إكسبرس؟ وكلما سمعنا عطسة أو كحّة ضحكنا وقلنا: "لا يكون كورونا"؟ فيضحك الشخص ببرود: لا، لم أذهب للصين. حتى نهاية فبراير ونحنُ ننظر لهذا المرض المُعدِي بأنه حدَث لا يجب أن يستحوذ على جُلّ اهتمامنا فهو "في آخر الدنيا" ولن يصل إلينا. إلى أن جاء الأسبوع الأوّل من مارس وبدأ الاستنفار العالمي، أُغلِقت المدارس والجامعات وأُرسِل الموظفين إلى منازلهم، خُصِّصت معظم المستشفيات لاستقبال مرضى كورونا، سكن الذعر والرُعب قلوبنا، لم نعد نشعر بالأمان وبتنا نبتعد عن مَن نُحِب، وعن جيراننا.

عشنا أيامًا هادِئة جدًا، غريبة جدًا، بطيئة جدًا، تواصلنا مع أحِبّتنا أكثر، عن بُعد، قرأنا بعض الكُتُب، صقلنا بعض المهارات؛ منها التطريز بالنسبة لي، والخَبْز بالنسبة للكثيرين. حِكْت عدّة مشاريع كيروشيهية، حاولت بدء بودكاست لكني لم أُفلِح، ابتدأت أختي قناة على اليوتيوب لتعليم الحياكة بالتريكو (سنّارتين). قضينا وقتًا طويلًا أمام الشاشات، نشاهد ونتواصل ونتعلّم. كما قضيتُ وقتًا طويلًا في "البلكونة" بين القِراءة والمُذاكرة والأكل. تخلّصنا من بعض الملابس التي لم نعُد بحاجة إليها، أعدتُ ترتيب الأغراض في المطبخ والخزانة بجانب الباب. حاولَت أُختي زراعة بعض الشُجيْرات، "عشان تكبر معانا في هالحجر وتعيش معانا"، لم تُفلِح. بدأ كثيرون مشاريعهم التي كانت مُعظمها تُدَار من المنزل، وهناك مَن فقدوا وظائفهم ليزدادوا همًّا فوق همومهم.

وقفنا طويلًا في طابور المحلّات التجارية، عفوًا.. البقّالات والسوبر ماركتات والصيدليّات فقط، فقد أُغلِقَت الأسواق وكأننا نعيشُ حِدادًا على أحدٍ لا نعرفه.

كانت سيارة الشرطة تدور بين الأحياء وصوت يصدح من مُكبّر الصّوت أعلى السيارة: "الزموا منازلكم، نحن نعيش في زمن الوباء، الرجاء البقاء في منازلكم". وكان رجال الشرطة يسيرون في الشوارع ، يُفرّقون أي اجتماع لأكثر من شخصين، يُوقفون من لا يلبسون الكمّامات، يدوّنون المخالفات ويُغرّمون المُخالفِين، وأعلنوا في المنصّات الرسمية أنه من حق الشرطة سؤالنا في الشوارع عن وِجهتنا وأين نقصد. كُنّا نُتابِع التلفزيون البولندي، نتابع الإحصاءات أوّلًا بأوّل، نُقارِن بين مُدُن بولندا وبين بولندا والسعودية. نقرأ الأخبار في الشريط الإخباري: تم القبض على ٥ شباب اجتمعوا عند بقاليّة لأنه يُمنَع التجمّع، ويُمنَع خُرُوج أكثر من شخصيْن معًا للشارع، وتم تغريمهم ٥٠٠٠ زلوتي.

كان الشهر الكريم أكثر روْحانيّة بالنسبة لكثيرين، وصاحَبَ ذي الحجة حسرة على الحج وموسمه وقلّة الحُجّاج بسبب الجائحة. الموسم العاشورائي كان مُختلِفًا، فبعد أن كانت جُملة: "رحِم الله مَن ذكر القائم فقام" تتردد حتى يتراصّ المُستمعون ويتّسع المجلس لأكبر قدَر ممكن من الناس، أصبحت الحُسينيات تُغلِق أبوابها بِمُجرّد الوصول لعدد المُعزّين المسموح به والذي تعيّن من قبل، حسب مساحة المكان، من قِبل الجِهات المُختصّة. فُتِحَت المساجد، لم يقُل إمام الجماعة للمُصلّين: "استووا وتراصّوا"، بل كانت المسافة الآمنة حاضرة ومطلوبة حتى في صلاة الجماعة، وإن لم يلتزم المُصلّون بذلك فسيتم إغلاق المسجد.

فقدنا ابنة عمة أمي، وابنة خال أبي، تُوِفّيَت ابنة خالتي ولحقتها خالتي، ثم جدّتي، وابنة عم والدي وعم والدي.. هذا غير المعارف وأقارب الأصدقاء. كانت ولا تزال أخبار الموت تتوالى، وآلام الفقد تزداد، والحُجّة القائمة من التذكير بالآخرة عبر رحيل مَن نُحِب إلى دارٍ غريبة عنّا، نؤمن أننا سنزُورها يومًا ما، هذه الحُجّة أبت إلا أن تضع الشدّة تلو الشدّة على جيمها. جرّبنا ألّا نُعانق مَن نُحِب ونبكي على مَن فقدنا، أعني... جربتُ ذلك مِرارًا لأنني أعيشُ بعيدًا عن أحبّتي، لكن هذه المرّة جرّبوا ذلك الذين يعيشون على نفس الأرض ورُبّما في نفس الحي والشارع، جرّبوا أن يكونوا بهذا القُرب ولا يستطيعون التزاور أو المُواساة حُضنًا لحُضن، صارت التعزية عن طريق المُكالمات ورسائل الواتس آب. هُناكَ مَن لم يُودّع فقيدهُ الوداع الأخير، لا لِسفرٍ أو لبُعد، بل للإجراءات المُتعلقة بعدوى الكورونا. رحل الأحِبّة ولم يُشيّعهم أحد لمثواهم الأخير، أو لم يحظوا بالتشييع الذي يليق بهم، وحتى حين كان هناك القليل لتشييعهم لم يتمكّنوا من مجاورة الجسد ساعة دخوله القبر، بل كان الوداع مؤلمًا وقاسيًا.. مِن بُعد، هذه الحفرة جاهزة، وُضِعَ الجسد، لُقِّنَ أم لم يُلَقّن، أُحيل التُراب على العينين المُغمضتين، وتفرّق الجَمع... الذي لم يكن سِوى ٦ أشخاص مبتعدين عن بعضهم البعض.

هناك أيضًا المُناسبات السعيدة، الخطوبات وحفلات الزواج البسيطة، من الزواج بلا حفلٍ تمامًا إلى الزواجات في حديقة أو منتجع بحضور لا يتجاوز الـ٥٠ شخصًا في مجتمع تعوّد أهله دعوة ٢٠٠ شخص أو يزيدون لحفلاتهم.

مواليد جدد لم يسمح نظام المُستشفى لوالداتهم باحتضانهم بعد الولادة مباشرةً، أو أن يبقوا معهم في الغرفة. وأمهات جديدات لم يفتحنَ بيوتهنّ لمَن يعاونهنّ في العناية بالوليد والنفس والمنزل، ولا من مؤنس للياليهنّ.

هدايا كثيرة وصلت من الأحباب المُشتاقين إلى عتبات المنازل، علاقات توطّدت وأخرى عرّاها البُعد فلم تصمد.

مرضى زادتهم الجائحة مرضًا، سواء على الصعيد الجسدي أو النفسي، وأجد أكثر التأثير نفسيًا حتى الذي ينعكس على الجسد. ومرضى بالكورونا، منهم من تعب قليلًا ثم تشافى، منهم من لازم الفِراش لأسابيع ومنهم مَن رقد في غرف العزل بالمستشفى أو في قسم العناية الفائقة. منهم مَن شعر باقتراب الموت ثم وجد أنه كُتِبَ له عمرٌ جديدٌ، منهم مَن نسي أنه مرض بعد تماثله للشفاء ومنهم من ظلّ تأثير المرض على جسده حتى بعد انقضاءه.

امتنان لوجود الأهل والأحِبّة والأصدقاء، واهتمامهم. امتنان لجهود الطاقم الطبّي ووزراة الصحة وكل دائرة كانت سببًا في عبور الجائحة بأفضل صورة ممكنة. امتنان لأن العمر لم ينتهِ، حسرة على الذين رحلوا، وتذكّر للموت في كل حين.

سنة غريبة، كأننا على ظهرِ موْجة، مرة في أفضل الأحوال وأسعدها ومرة في أحلك أودية الحزن والضياع. الخائف ازداد خوفَا، المريض بالقلق ازداد قلقًا، والمُفرِط في السَكِينة لم تتزعزع سكِينته.

ستنتهي السنة، ولا زلنا تحت مظلّة الجائحة، هناك ٨٠٠٠ حالة مُعلن عنها اليوم في بولندا و٤٠٠ حالة وفاة. والخبر الجيّد أنه تم تصنيع عدة لقاحات لمواجهة الوباء. نتطلّع لليوم الذي نخرج فيه من منازلنا آمنين مطمئنّين، لا نشغل أنفسنا بالعدوى وطرق الوقاية، أتطلّع لليوم الذي سألتقي فيه أحبتي وأحتضنهم طويلًا دون الخوف من أن أكون سببًا في مرضهم أو يكونوا سببًا في مرضي.

أُمنيتي أن نحظى بأيام ألطف وأخفّ على قلوبنا، وأن ننعم بالأمان والسلام، ويجتمع الأحباب في خيرٍ وفرح، فليضحكوا كثيرًا وليبكوا قليلًا.. آمين 💖

رُكنِي الدافِئ

هذه التدوينة نتيجة إلهام من منشور الصديقة فاطمة الزهراء 💖 حين سألَت عن شعورنا تجاه غُرفنا وهل نعتبرها مساحة آمنة نحبها ونرتاح فيها أم ننفر...